بحـث
مواضيع مماثلة
المواضيع الأخيرة
رأفت الهجان الجزء الثاني
القادمون من المريخ :: المهم :: منوعات :: مجتمع :: قصص جاسوسية وتجسس :: عملاء زرعتهم المخابرات العربية في اسرائيل
صفحة 1 من اصل 1
رأفت الهجان الجزء الثاني
الجزء الثالث
في مذكراته، وبقلمه، يواصل (رفعت الجمّال) رواية تفاصيل مقابلته الأولى، لضابط البوليس السياسي، قائلاً:
-عندئذ عرفت أنني وقعت في المصيدة التي نصبها لي. عرفت أنه انتصر عليّّ. فقد استفزني إلى أقصى الحدود ليجعلني أظهر على حقيقتي، واستطاع ببضع كلمات عن أعداء مصر أن يجعلني أكشف الستر عما أخفيته.
وهنا قال:
- (رفعت) أنا فخور بك. أنت مصري أصيل. أطلب منك أن تخبرني شيئاً واحداً وبعدها سأعترف لك بالسبب في أنك هنا، وفي أني مهتم بك أشد الاهتمام. كيف نجحت فيجعل اليهود يقبلونك كيهودي؟أجبت قائلاً:
- هذه قصة طويلة، وأنا واثق من أنكلا تريد سماعها.
وكانت إجابته:
- جرَّب. عندي وقت طويل.
سألته:
- وفيما يهمك هذا؟قال هادئاً:
-لأنني بحاجة إليك، وعندي عرض أريد أن أقترحها عليك.
ربما كنت أنتظر هذه اللحظة. إذ سبق لي أن عشت أكاذيب كثيرة في حياتي، وبعد أن قضيت زمناً طويلاً وحدي مع أكاذيبي، أجدني مسروراً الآن إذ أبوح بالحقيقة الشخص ما. وهكذا شرعت أحكي لـ(حسن حسني) كل شيء عني منذ البداية. كيف قابلت كثيرين من اليهود في ستوديوهات السينما، وكيف تمثلت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن أصبح ممثلاً. وحكيت له عن الفترة التي قضيتها في (إنجلترا) و(فرنسا) و(الولايات المتحدة الأمريكية)، ثم أخيراً في (مصر). بسطت له كل شيء في صدق. إنني مجرد مهرج،ومشخصاتي عاش في التظاهر ومثل كل الأدوار التي دفعته إليها الضرورة ليبلغ ما يريد في حياته.
بعد أن فرغت من كلامي اتسعت ابتسامة (حسني) أكثر مما كانت وقال لي:
- (رفعت الجمَّال)، أنت إنسان مذهل. لقد اكتسبت في سنوات قليلة خبرة أكبر بكثير مما اكتسبه شيوخ على مدى حياتهم. أنت بالضبط الشخص الذي أبحث عنه. يمكن أن نستفيد منك استفادة حقيقية.
وكان سؤالي هذه المرة:
- ما الذي تريدني من أجله؟أجاب قائلاً:
- كما قلت لك من قبل هناك مشكلات خارجية كثيرة تواجه مصر. وتوجد في مصر أيضاً رؤوس أموال ضخمة يجري تهريبها. والملاحظ أن كثيرين من الأجانب وخاصة اليهود هم الذين يتحايلون لتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. يمكنهم تحويل مبالغ بسيطة فقط بشكل قانوني، غير أنهم نظموا فرقاً تخطط وتنظم لإخراج مبالغ ضخمة من مصر. واليهود هم الأكثر نشاطاً في هذا المجال. إن إسرائيل تأسست منذ خمس سنوات مضت، وهناك كميات ضخمة من الأموال تتجه إليها. ونحن ببساطة لا نستطيع تعقب حيلهم،ومن ثم فنحن نريد أن نغرس بينهم شخصاً ما، يكتسب ثقتهم ويطمئنون إليه وبذا يكتشف حيلهم في تهريب أموالهم إلى خارج البلاد، كما يكشف لنا عمن وراء ذلك كله. نريد أن نعرف كيف تعمل قنوات النقل التي يستخدمونها وكل شيء آخر له أهمية. وأنت الشخص المثالي لهذا العمل. الشخص الذي نزرعه وسطهم لابد وأن يكون يهودياً. ولقد استطعت إقناعهم بأنك كذلك. ما رأيك؟ هل أنت على استعداد لهذه المهمة؟حدقت فيه كأنه نزل إليّ من السماء. لم أشعر بالاطمئنان، ولم تكن لديّ فكرة عما أنا مزمع عمله. أوضح ليأنني أفضل فرس رهان بالنسبة له. وأضاف أنهم سوف يتولون تدريبي، وإيجاد قصة جيدةالإحكام لتكون غطاء لي، ثم يضعونني وسط المجتمع اليهودي في (الإسكندرية).
سألته:
- وماذا يعود عليَّ أنا من هذا؟
- سيتم محو ماضي (رفعت الجمَّال) تماماً، ويجري إسقاط جميع الإجراءات القضائية الأولية لإقامة الدعاوي ضدك بسبب جوازات السفر المزورة، والبيانات الشخصية عن (علي مصطفى)، و(شارلزدينون)، و(دانييل كالدويل)، وأي أسماء أخرى سبق لك أن استعملتها، كما سيتم إسقاط أياتهامات أخرى ضدك. وسوف تستعيد قيمة شيكاتك السياحية، أو تكتب بالاسم الذي تتخذه لنفسك وتعيش به كيهودي. هل نعقد الصفقة معاً؟عدت لأسأله:
- هل لي حقالاختيار؟
- من حيث المبدأ لك الخيار. فإذا كنت قد اعتدت على حياة السجن، فمنالمؤكد أنك تستطيع اختيار هذا لأن السجن سيكون هو مكانك ومآلك زمناً طويلاً ما لمتسقط الاتهامات ضدك.
- وكيف نبدأ إجراءاتنا من هنا إذا ما قبلت عرضك؟
- سنشرعفي تدريبك على الفور. سيكون تدريباً مكثفاً ويحتاج إلى زمن طويل. وسوف تكون لكشخصية جديدة وتنسى ماضيك تماماً. وما أن توضع في مكانك الجديد حتى تغدو مسؤولاً عننفسك. لن يكون لنا دور سوى دعمك بالضرورات، ولن نتدخل إلا إذا ساءت الأمور، أو أصبحالوضع خطراً.
جلست في مكاني أفكر في الفرص المتاحة لي، مدركاً ألا خيار آخرأمامي إذا لم أشأ دخول السجن، لقد أوقع بي (حسن حسني) حيث أراد لي، ولا حيلة ليإزاء ذلك. وقفت وبسطت يدي لأصافحه موافقاً وأنا أقول له:
- حسن، أظنك أوقعت بيحيث تريد لي أن أكون. إذن لنبدأ.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة:
- أنا سعيد جداًأن أسمع هذا منك.
وبدأت فترة تدريب مكثف. شرحوا لي أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلمت سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلمت بالإضافة إلى ذلك عادات اليهود وسلوكياتهم. وتلقيت دروساً مكثفة في اللغة العبرية كما تعلمت تاريخ اليهود في مصروأصول ديانتهم. وعرفت كيف أمايز بين اليهود الإشكانز(*) والسفارد(**) والشازيد(***). وحفظت عن ظهر قلب الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية حتى أنني كنتأرددها وأنا نائم. وتدربت أيضاً على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمداً على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرتني الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفياً. وأخيراً تقمصت شخصيتي الجديدة. وأصبحت منذ ذلك التاريخ (جاك بيتون) المولود في 23أغسطس عام1919 في المنصورة، من أبفرنسي وأم إيطالية. وأن أسرتي تعيش الآن في (فرنسا) بعد رحيلها عن مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال. وديانتي هي يهودي إشكنازي. وتسلمت وثائق تحمل اسمي الجديد والتواريخ الجديدة.
هكذا ذكر (رفعت) الأمر، في مذكراته الشخصية..
وهكذا انتهى (رفعت الجمَّال) رسمياً، ليولد (جاك بيتون)، الذي انتقل للعيش في (الإسكندرية)، ليقيم في حي يكثر به اليهود، ويحصل على وظيفة محترمة، في إحدى شركات التأمين..
ورويداً رويداً بدأت ثقته في نفسه تزداد، وبدأ يتعايش كفرد من الطائفة اليهودية، التي قدمه إليها زميل الحجز السابق (ليفي سلامة)، والذي قد ضيعه بعض الوقت، عندما تم إلقاء القبض عليه، عند الحدود الليبية..
وفي مذكراته هذه، يكشف لنا (رفعت الجمَّال) جانباً لم يتطرَّق إليه المسلسل التليفزيوني على نحو مباشر أبداً، إذ تباغتنا المفاجأة بأنه قد انضمّ، أثناء وجوده في (الإسكندرية)، الوحدة اليهودية (131)، التي أنشأها الكولونيل اليهودي (إفراهام دار)، لحساب المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان)، والتي شرع بعض أفرادها في القيام بعمليات تخريبية، ضد بعض المنشآت الأمريكية والأجنبية، على نحو يجعلها تبدو كما لو أنها من صنع بعض المنظمات التحتية المصرية، فيما عرف بعدها باسم (فضيحة لافون)، نسبة إلى (إسحق لافون)، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك..
وفي الوحدة (131)، كان (رفعت الجمَّال) زميلاً لعدد من الأسماء، التي أصبحت فيما بعد شديدة الأهمية والخطورة، في عالم المخابرات والجاسوسية، مثل (مارسيل نينو)، التي أقام علاقة معها لبعض الوقت،و(ماكس بينيت)، و(إيلي كوهين)، ذلك الجاسوس الذي كاد يحتلّ منصباً شديد الحساسية والخطورة، بعد هذا بعدة سنوات، في الشقيقة (سوريا)، وغيرهم..
ومذكرات (رفعت)، فيهذا الجزء بالذات، تبدو مدهشة بحق، إذ أنها تخالف كل ما قرأناه أو تابعناه، بشأن عملية (سوزانا)، أو (فضيحة لافون)؛ إذ أنها توحي بأن كل شيء كان تحت سيطرة جهاز مكافحة الجاسوسية منذ البداية، وأن (حسن حسني)، ومن بعده (علي غالي)، الذي تولَّى أمر (رفعت)، في مرحلة تالية، كانا يتابعان نشاط الوحدة (131) طوال الوقت، وأن معلومات (رفعت)، التي كان ينتزعها، من قلب الوحدة، كانت سبباً أساسياً في إحباط العملية كلها، وإلقاء القبض على كل المشتركين فيها.
الجزء الرابع
على الرغم من التعارض الواضح، في مذكراته، مع مانشر عن تفاصيل سقوط
جواسيس فضيحة (لافون)، فأنا -شخصياً- أكثر ميلاً لتصديق قصة (رفعت)، بل
وأعتقد أن الهدف من نشر الأمر، على نحو مختلف، كان حمايته بالدرجة الأولى
بعدما انتقل عمله من الشرطة والبوليس السياسي إلى عالم الجاسوسية، وتطوَّر
الهدف من وجوده، في مرحلة تالية من العملية..
ولقد تم إلقاء القبض على (رفعت) و(إيلي كوهين)، كأفراد في الوحدة
(131)، ثم أطلق سراحهما فيما بعد، لعدم وجود ما يدينهما، فاختفى بعدها (إيلي)،
في حين بقي (رفعت)، ليواصل الحياة لبعض الوقت، باسم (جاك بيتون)، الذي لم
يتطرَّق إليه الشك حتماً، بدليل أن الإسرائيليين قد اتهموا عضواً آخر، من الوحدة (131)
بكشف أسرارها، وهو (بول فرانك)، الذي حوكم بالفصل، فور عودته إلى (إسرائيل)
وصدر ضده الحكم بالسجن لاثني عشر عاماً..
وحتى ذلك الحين، وكما يقول (رفعت) في مذكراته، كانت مهمته تقتصر على
التجسُّس على مجتمع اليهود في (الإسكندرية)، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131)
تم استدعاؤه إلى (القاهرة)، ليلتقي بضابط حالته الجديد (علي غالي)، الذي واجهه
لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر
خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131)، ستخدع
الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل..
وهنا أيضاً، أعتقد أنه من الأروع أن نقرأ تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة من مذكرات (رفعت)
مباشرة، عندما يقول:
مرة أخرى وجدت نفسي أقف عند نقطة تحول خطيرة في حياتي. لم أكن أتصور
أنني ما أزال مديناً لهم، ولكن الأمر كان شديد الحساسية عندما يتعلق بجهاز المخابرات.
فمن ناحية روعتني فكرة الذهاب إلى قلب عرين الأسد. فليس ثمة مكان للاختباء
في (إسرائيل)، وإذا قبض عليَّ هناك فسوف يسدل الستار عليَّ نهائياً.
والمعروف أن (إسرائيل) لا تضيع وقتاً مع العملاء الأجانب. يستجوبونهم ثم يقتلونهم.
ولست مشوقاً إلى ذلك. ولكني كنت أصبحت راسخ القدمين في الدور الذي تقمصته
كما لو كنت أمثل دوراً في السينما، وكنت قد أحببت قيامي بدور (جاك بيتون).
أحببت اللعبة، والفارق الوحيد هذه المرة هو أن المسرح الذي سأؤدي عليه دوري
هو العالم باتساعه، وموضوع الرواية هو الجاسوسية الدولية. وقلت في نفسي أي
عرض مسرحي مذهل هذا؟... لقد اعتدت دائماً وبصورة ما أن أكون مغامراً مقامراً
وأحببت مذاق المخاطرة. وتدبرت أمري في إطار هذه الأفكار، وتبين لي أن لا خيار أمامي.
سوف أؤدي أفضل أدوار حياتي لأواجه خيارين في نهاية المطاف: إما أن يقبض
عليَّ وأستجوب وأشنق، أو أن أنجح في أداء الدور وأستحق عليه جائزة أوسكار.
وكنت مقتنعاً أيضاً بأني أعمل الصواب من أجل مصر وشعبها.
قلت لغالي:
- إذا كنت تعتقد أنني قادر على أداء المهمة فإني لها.
ثم كان السؤال الثاني:
- كيف نبدأ من هنا؟
- سوف يجري تدريبك على العمل على الساحة الدولية. كل ما تتعلمه
يجب أن يسري في دمك. هذا هو سر اللعبة. أنت مخرج عرضك المسرحي
وإما أن تنجح فيه بصورة كاملة، أو تواجه الهلاك.
تصافحنا علامة الموافقة وبدأت جولة تدريب مكثف. ودرست تاريخ اليهود الأوروبيين
والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. تعلمت كل شيء عن الأحزاب السياسية
في (إسرائيل) والنقابات و(الهستدروت) أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا
والطوبوغرافيا وتركيب (إسرائيل). وأصبحت خبيراً بأبرز شخصيات (إسرائيل)
في السياسة والجيش والاقتصاد عن طريق دراسة أفلام نشرات الأخبار الأسبوعية.
وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر
والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة
الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع
وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة
وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية
واللغة العبرية. واعتدت أن أستمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل.
بل وعمدت إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنني في نهاية الأمر مولود في مصر.
بعد التدريب تحددت لي مهنة. تقرر أن أكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا
سيسمح لي بالدخول إلى (إسرائيل) والخروج منها بسهولة، وتقرر أن أؤدي اللعبة
لأطول مدة ممكنة. لم يكن ثمة حد زمني، وكان لي الخيار بأن أترك الأمر كله
إذا سارت الأمور في طريق خطر. وسوف نرى إلى أين تمضي بنا الأمور. وقيل لي
إنني أستطيع بعد ذلك العودة إلى (مصر) وأستعيد شخصيتي الحقيقية.
وتسلمت مبلغ 3000 دولار أمريكي لأبدأ عملي وحياتي في (إسرائيل).
وفي يونيو1956 استقللت سفينة متجهة إلى (نابولي) قاصداً في الأصل أرض الميعاد.
ودعت (مصر) دون أن أدري ما سوف يأتي به المستقبل.
واعتباراً من هذه المرحلة، تنقلنا مذكرات (رفعت الجمًّال)، التي تركها لزوجته بعد وفاته
إلى تلك المرحلة الجديدة تماماً من حياته، والتي سافر خلالها إلى (نابولي)،
حيث التقطته الوكالة اليهودية هناك، وبذلت جهدها لإقناعه بالسفر إلى (إسرائيل)،
(أرض الميعاد)، كما كانت تقول دعاياتهم بمنتهى الإلحاح أيامها..
وفي هذا الجزء بالذات، وربما دون أن يدري (رفعت) نفسه، تتبدّى عبقرية العملية كلها،
إذ لم يبد هو أية لهفة، على السفر إلى (إسرائيل)، إلا أنه لم يمانع بشدة في الوقت نفسه،
وإنما جعلهم يعتقدون أنهم قد نجحوا في إقناعه، وتركهم يدفعونه إلى ظهر سفينة،
حملته إلى (إسرائيل)، التي استقبله فيها رجل مخابرات يُدعى (سام شواب)، واستجوبه
بعض الوقت، ثم منحه تأشيرة إقامة، وجواز سفر إسرائيلي فيما بعد، مما يؤكِّد
أن عملية المخابرات المصرية قد نجحت بالفعل.. وبمنتهى القوة..
الجزء الخامس
ويتحدَّث (رفعت الجمَّال)، في تلك المرحلة من مذكراته، عن إنشائه لمكتب سفريات
(سي تورز)، في 2 شارع (برينر) في (تل أبيب)، وصداقته مع (موشي دايان)،
ومحاولات (سام شوب)، التقرُّب إليه، ودفعه الفاتنة (راكيل إبشتين) في طريقه،
ومحاولاته هو لاكتساب ثقة (دايان) و(شوب)، و(عزرا وايزمان)، ثم ينتقل بنا فجأة
إلى حدث شديد الأهمية والخطورة..
فمع اقترابه من مواقع الأحداث، علم (رفعت) بأمر العدوان الثلاثي قبل وقوعه،
وعرف الكثير من تفاصيله، وسافر إلى (روما) و(ميلانو) بالفعل، بعد ترتيبات دقيقة؛
ليلتقي برئيسه، ويخبره بكل ما لديه..
ولكن أحداً لم يصدّق، أو يقتنع بأهمية وخطورة تلك المعلومات، التي أتى بها
(رفعت)، من قلب (إسرائيل)...
ووقع العدوان الثلاثي..
وحدث ما حدث..
وتساءل (رفعت): لماذا لم يصدق أحدهم تحذيره!…
ولكنه لم يحصل على الجواب أبداً..
وفي عام 1957م، فوجئ (رفعت) بزيارة من (إيلي كوهين)، زميله السابق، في
الوحدة (131)، الذي سعى إليه، واستعاد صداقته معه، قبل أن يبدأ مهمته، التي
سافر من أجلها إلى (أمريكا الجنوبية)، للاندماج بمجتمع المهاجرين السوريين،
تمهيداً لزرعه في (سوريا) فيما بعد، والتي ساهم (رفعت) نفسه في كشف أمرها،
عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة (كامل أمين ثابت)، التي نشرتها الصحف،
المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي (إيلي حوفي كوهين)..
وفي مذكراته يمضي (رفعت) في سرد حياته في (تل أبيب)، ويروي قصة اختيار
مكتبه السياحي لإقامة الجسر الجوي؛ لنقل يهود (بيروت) إلى (إسرائيل)، مما يؤكِّد
ثقة السلطات الإسرائيلية البالغة فيه، ويمرّ خلال هذا برواية رحلته السرية إلى (مصر)،
في صيف 1958م، وبقصة الرحلة، التي أهداها إلى (إيلي كوهين) وزوجته، بمناسبة
زفافهما، ثم يتوقَّف بعض الوقت؛ ليروي صداقاته وعلاقاته الوثيقة، بقادة (إسرائيل)
في ذلك الوقت، ليقول في هذه الفقرة: (كثفت اتصالاتي بكل من (ديان)، و(وايزمان)،
و(شواب)، ونظراً لصلة (ديان) الوثيقة بـ(بن جوريون)، فقد استطعت أن أكسب ثقة
(بن جوريون) أيضاً، وأصبحت عضواً في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب
أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم. أما (جولدا مائير) فكانت تتميَّز بأنها
امرأة عطوف، وأبدت وداً شديداً نحوي، وكثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي ماذا
عساهم أن يقولوا عني لو اكتشفوا حقيقتي وعرفوا أني استخدمتهم)...
والواضح أيضاً، في هذه المرحلة من المذكرات، أن الفترة من 1959م، وحتى 1963م،
لم تحمل متغيرات قوية، تستحق الإشارة إليها، إذ قفز (رفعت) بالأحداث دفعة واحدة،
ليروي كيف أبلغ (مصر) باعتزام (إسرائيل) إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة
التكنولوجية الحديثة، أثناء لقائه برئيسه (علي غالي) في (ميلانو)، قبل أن يطرح أوَّل
مطلب له، منذ فترة طويلة..
أوّل وأخطر مطلب..
على الإطلاق.
طوال فترة عمله، في قلب إسرائيل، لحساب المخابرات المصرية، لم يتقدّم (رفعت الجمّال)
بمطلب واحد للمسؤولين..
حتى كان مطلبه هذا..
أن يعود إلى (مصر)، ويدفن إلى الأبد شخصية (جاك بيتون)..
حدث هذا في يونيو1963م، قبل لقائه الأوَّل بزوجته فيما بعد (فلتراود)، أي أن رغبته
هذه كانت تعكس حالة الإجهاد التي وصل إليها، ورغبته الحقيقية في استعادة
(رفعت الجمَّال)، بهويته، وجنسيته..
وديانته أيضاً..
ولكن العودة لم تكن بالبساطة التي توقَّعها (رفعت)؛ إذ لم يكن من السهل بالتأكيد،
أن يختفي (جاك بيتون) هكذا فجأة، من قلب (إسرائيل)، ليظهر (رفعت الجمَّال) مرة
أخرى في (القاهرة)؛ فهذا كفيل بكشف كل ما فعله طوال حياته..
ليس هذا فحسب، ولكن ستكشف -أيضا- شبكات التجسُّس التي تركها خلفه أيضاً..
وفي عالم المخابرات تعتبر هذه كارثة.. وبكل المقاييس..
كان عليه –إذن- أن يحتفظ بشخصية (جاك بيتون) لبعض الوقت، وإن كان باستطاعته
أن يغادر (إسرائيل)، ويرحل إلى بلد ثالث، بحجة العمل أو الارتباط، حتى يفقد
(الموساد) اهتمامه به، بعد فترة من الوقت، مما يسمح له بالعودة إلى (مصر)..
وعند هذا الحد، تمتزج، على نحو ما، مذكرات (جاك بيتون) بمذكرات زوجته (فلتراود)،
فيروي هو نفس ما روته هي من قبل، حول لقائهما، في أكتوبر 1963م، ووقوع كل
منهما في حب الآخر، وزواجهما.
ولكن هناك فقرة مهمة جداً، في المذكرات التي تركها (رفعت) لزوجته بعد وفاته،
تستحق حتماً أن نتوقَّف عندها، وأن ننقلها هنا نصاً؛ لأنها تؤكِّد نجاحه البالغ:
(وعدنا إلى إسرائيل في أوائل يناير1964م، قدمتك إلى "جولدا مائير"، وأحبتك كثيراً،
ثم اصطحبتك في زيارة إلى "بن جوريون"، في الكيبوتز الخاص به. رافقنا "ديان"
في هذه الزيارة، وبعد أن استقبلك "بن جوريون" العجوز مرحباً، طلبت منك التجول
في الكيبوتز إلى أن نفرغ من حديثنا أنا و"بن جوريون" و"ديان". لم يتناول نقاشنا
شيئاً له أهمية كبيرة، ولكن كان لابد وأن أكون متابعاً لمسرح الأحداث)..
إلى هذا الحد إذن كان (رفعت الجمّال) متوغّلاً، في قلب عالم الكبار
في (إسرائيل)!!! أي نجاح يمكن أن يفوق هذا!!
والنقطة المهمة جداً، التي ينبغي التوقف عندها، في هذه المذكرات أيضاً، هي
إصرار (رفعت) الشديد، على ألا يولد ابنه في (إسرائيل)، وعلى أن تسافر زوجته
لتنجبه في (ألمانيا)، حتى لا يحمل إلى الأبد الجنسية الإسرائيلية..
ورويداً رويداً، راح (رفعت) يتحلَّل من أعماله والتزاماته في (إسرائيل)، ويقوي روابطه
وأعماله في (ألمانيا)، وبدأ في دراسة كل ما يتعلَّق بالنفط، الذي قرَّر أن يجعل من
تجارته مصدر رزقه الأساسي، خاصة وأنه قد تقدَّم بطلب للحصول على الجنسية الألمانية،
التي ستتيح له السفر بيسر أكثر، ودون تعقيدات أمنية عديدة، إلى (مصر)، في أي
وقت يشاء، كرجل أعمال ألماني، وتاجر نفط عالمي..
وفي فقرة مؤسفة، يؤكِّد (رفعت) أنه، باتصالاته التي لم تكن قد انقطعت بعد،
بالمسؤولين الإسرائيليين، أمكنه معرفة أن (إسرائيل) تستعد للهجوم على (مصر)،
في يونيو1967م، وأنه أبلغ المسؤولين في (مصر) بهذا، إلا أن أحداً لم يأخذ
معلوماته مأخذ الجد، نظراً لوجود معلومات أخرى،
تشير إلى أن الضربة ستنصب على (سوريا) وحدها!!..
ووقعت نكسة1967.. وانهزمنا هزيمة منكرة.. وعلى الرغم من حالة الإحباط وخيبة الأمل، التي أصابته بسبب هذا، واصل (رفعت) ارتباطه بالمخابرات المصرية، وظلّ يرسل إليها كل ما يقع تحت يديه من معلومات،من خلال صداقته مع رجل المخابرات الإسرائيلي (سام شواب)، حتى توافرت لديه
فجأة بعض المعلومات بالغة الخطورة، (لم يفصح عنها أيضاً في مذكراته)، والتي
أرسلها فوراً إلى (مصر)، وصدقها المصريون، وكان لها تأثير واضح، في حرب 1973م..
وبعد الحرب والانتصار، عاد (رفعت) يطلب العودة إلى (مصر)، ولكن المخابرات
المصرية أخبرته أنه لا يستطيع العودة مع أسرته، إذ يستحيل أن تتم حماية الأسرة
كلها طوال الوقت، من أية محاولات انتقامية إسرائيلية، إذا ما انكشف أمره..
كان على الطير أن يواصل التحليق إذن، بعيداً عن وطنه، وأن يحمل حتى آخر
العمر جنسية (جاك بيتون)، اليهودي الإسرائيلي السابق، ورجل الأعمال الألماني
المحترم، الذي نجح في إقامة مشروع نفطي كبير في (مصر)، ظلّ يزهو به، حتى
آخر لحظة في حياته، ويروي في مذكراته كيف حصل على امتياز التنقيب عن البترول
المصري، في عام 1977م، ليعود أخيراً إلى (مصر)، التي عشق ترابها،
وفعل من أجلها كل ما فعله.. وفي نهاية مذكراته، يتحدَّث (رفعت الجمَّال) عن إصابته بمرض خبيث،
وتلقيه العلاج الكيمائي، في أكتوبر1981م، وتفاقم حالته، ثم يبدي ارتياحه،
لأن العمر قد أمهله، حتى أكمل مذكراته، وأن زوجته وابنه (دانيال)،
وابنته بالتبني (أندريا) سيعرفون يوماً ما حقيقته، وهويته، وطبيعة الدور
البطولي الذي عاش فيه عمره كله، من أجل وطنه..
من أجل (مصر)..وهنا ينتهي الجزء الثاني من الكتاب، ليبدأ الجزء الثالث، وهو الأقل أهمية،
بالنسبة للقارئ، نظراً لأنه يحوي تطورات حياة (فلتراود)، بعد رحيل (رفعت)،
ومحاولاتها السيطرة على الأمور، ومعرفتها بأمر زوجها، على لسان ابن شقيقه
(محمد سامي الجمَّال)، في نفس يوم الوفاة، وكيف أنها لم تصدّق ماسمعته،
وأنكرته، واستنكرته..
ثم تتحدّث عن المفاجأة التي تلقَّتها، مع قراءتها لمذكراته، بعد ثلاث سنوات
من وفاته، وتأكُّدها مما أخبرها به (محمد الجمَّال) قديماً..
ويالها من مفاجأة!!
ثم تروي (فلتراود) قصة لقائها بالفنان (إيهاب نافع)، وارتباطها به، والدور الذي
قام به، لإجراء الاتصال بينها وبين المخابرات المصرية؛ للتيقن من حقيقة ما جاء
في مذكرات زوجها الراحل، ثم زواجها من (إيهاب نافع) فيما بعد..
والأحداث الأخيرة تختلف إلى حد ما، عما قدَّمه المسلسل التليفزيوني، وتبدو طويلة
ومضجرة، وخاصة بعد خروجك من مذكرات (رفعت الجمَّال) نفسه، ولكن اختلافها لن
يصنع فارقاً كبيراً، بالنسبة للقارئ أو المتابع؛ إذ أن كل ما يعنينا
من الأمر هو أن الاتصال قد تم..
وأن العالم كله يعرف الآن أن المخابرات المصرية قد نجحت، في صفع الإسرائيليين،
طوال ثمانية عشر عاماً كاملة، وزرع جاسوس مصري في قلب قياداتهم..
وقلب مجتمعهم..
بل وقلب كيانهم الأساسي كله..
وأنها كانت واحدة من أروع وأكمل العمليات، التي تم نشر (بعض) تفاصيلها،
في تاريخ المخابرات كله..
عملية، برع وتألّق خلالها جاسوس يعد الأشهر في عالمه، حتى لحظة كتابة هذه السطور..
بل أشهر الجواسيس..على الإطلاق.
في مذكراته، وبقلمه، يواصل (رفعت الجمّال) رواية تفاصيل مقابلته الأولى، لضابط البوليس السياسي، قائلاً:
-عندئذ عرفت أنني وقعت في المصيدة التي نصبها لي. عرفت أنه انتصر عليّّ. فقد استفزني إلى أقصى الحدود ليجعلني أظهر على حقيقتي، واستطاع ببضع كلمات عن أعداء مصر أن يجعلني أكشف الستر عما أخفيته.
وهنا قال:
- (رفعت) أنا فخور بك. أنت مصري أصيل. أطلب منك أن تخبرني شيئاً واحداً وبعدها سأعترف لك بالسبب في أنك هنا، وفي أني مهتم بك أشد الاهتمام. كيف نجحت فيجعل اليهود يقبلونك كيهودي؟أجبت قائلاً:
- هذه قصة طويلة، وأنا واثق من أنكلا تريد سماعها.
وكانت إجابته:
- جرَّب. عندي وقت طويل.
سألته:
- وفيما يهمك هذا؟قال هادئاً:
-لأنني بحاجة إليك، وعندي عرض أريد أن أقترحها عليك.
ربما كنت أنتظر هذه اللحظة. إذ سبق لي أن عشت أكاذيب كثيرة في حياتي، وبعد أن قضيت زمناً طويلاً وحدي مع أكاذيبي، أجدني مسروراً الآن إذ أبوح بالحقيقة الشخص ما. وهكذا شرعت أحكي لـ(حسن حسني) كل شيء عني منذ البداية. كيف قابلت كثيرين من اليهود في ستوديوهات السينما، وكيف تمثلت سلوكهم وعاداتهم من منطلق الاهتمام بأن أصبح ممثلاً. وحكيت له عن الفترة التي قضيتها في (إنجلترا) و(فرنسا) و(الولايات المتحدة الأمريكية)، ثم أخيراً في (مصر). بسطت له كل شيء في صدق. إنني مجرد مهرج،ومشخصاتي عاش في التظاهر ومثل كل الأدوار التي دفعته إليها الضرورة ليبلغ ما يريد في حياته.
بعد أن فرغت من كلامي اتسعت ابتسامة (حسني) أكثر مما كانت وقال لي:
- (رفعت الجمَّال)، أنت إنسان مذهل. لقد اكتسبت في سنوات قليلة خبرة أكبر بكثير مما اكتسبه شيوخ على مدى حياتهم. أنت بالضبط الشخص الذي أبحث عنه. يمكن أن نستفيد منك استفادة حقيقية.
وكان سؤالي هذه المرة:
- ما الذي تريدني من أجله؟أجاب قائلاً:
- كما قلت لك من قبل هناك مشكلات خارجية كثيرة تواجه مصر. وتوجد في مصر أيضاً رؤوس أموال ضخمة يجري تهريبها. والملاحظ أن كثيرين من الأجانب وخاصة اليهود هم الذين يتحايلون لتهريب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد. يمكنهم تحويل مبالغ بسيطة فقط بشكل قانوني، غير أنهم نظموا فرقاً تخطط وتنظم لإخراج مبالغ ضخمة من مصر. واليهود هم الأكثر نشاطاً في هذا المجال. إن إسرائيل تأسست منذ خمس سنوات مضت، وهناك كميات ضخمة من الأموال تتجه إليها. ونحن ببساطة لا نستطيع تعقب حيلهم،ومن ثم فنحن نريد أن نغرس بينهم شخصاً ما، يكتسب ثقتهم ويطمئنون إليه وبذا يكتشف حيلهم في تهريب أموالهم إلى خارج البلاد، كما يكشف لنا عمن وراء ذلك كله. نريد أن نعرف كيف تعمل قنوات النقل التي يستخدمونها وكل شيء آخر له أهمية. وأنت الشخص المثالي لهذا العمل. الشخص الذي نزرعه وسطهم لابد وأن يكون يهودياً. ولقد استطعت إقناعهم بأنك كذلك. ما رأيك؟ هل أنت على استعداد لهذه المهمة؟حدقت فيه كأنه نزل إليّ من السماء. لم أشعر بالاطمئنان، ولم تكن لديّ فكرة عما أنا مزمع عمله. أوضح ليأنني أفضل فرس رهان بالنسبة له. وأضاف أنهم سوف يتولون تدريبي، وإيجاد قصة جيدةالإحكام لتكون غطاء لي، ثم يضعونني وسط المجتمع اليهودي في (الإسكندرية).
سألته:
- وماذا يعود عليَّ أنا من هذا؟
- سيتم محو ماضي (رفعت الجمَّال) تماماً، ويجري إسقاط جميع الإجراءات القضائية الأولية لإقامة الدعاوي ضدك بسبب جوازات السفر المزورة، والبيانات الشخصية عن (علي مصطفى)، و(شارلزدينون)، و(دانييل كالدويل)، وأي أسماء أخرى سبق لك أن استعملتها، كما سيتم إسقاط أياتهامات أخرى ضدك. وسوف تستعيد قيمة شيكاتك السياحية، أو تكتب بالاسم الذي تتخذه لنفسك وتعيش به كيهودي. هل نعقد الصفقة معاً؟عدت لأسأله:
- هل لي حقالاختيار؟
- من حيث المبدأ لك الخيار. فإذا كنت قد اعتدت على حياة السجن، فمنالمؤكد أنك تستطيع اختيار هذا لأن السجن سيكون هو مكانك ومآلك زمناً طويلاً ما لمتسقط الاتهامات ضدك.
- وكيف نبدأ إجراءاتنا من هنا إذا ما قبلت عرضك؟
- سنشرعفي تدريبك على الفور. سيكون تدريباً مكثفاً ويحتاج إلى زمن طويل. وسوف تكون لكشخصية جديدة وتنسى ماضيك تماماً. وما أن توضع في مكانك الجديد حتى تغدو مسؤولاً عننفسك. لن يكون لنا دور سوى دعمك بالضرورات، ولن نتدخل إلا إذا ساءت الأمور، أو أصبحالوضع خطراً.
جلست في مكاني أفكر في الفرص المتاحة لي، مدركاً ألا خيار آخرأمامي إذا لم أشأ دخول السجن، لقد أوقع بي (حسن حسني) حيث أراد لي، ولا حيلة ليإزاء ذلك. وقفت وبسطت يدي لأصافحه موافقاً وأنا أقول له:
- حسن، أظنك أوقعت بيحيث تريد لي أن أكون. إذن لنبدأ.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة:
- أنا سعيد جداًأن أسمع هذا منك.
وبدأت فترة تدريب مكثف. شرحوا لي أهداف الثورة وفروع علم الاقتصاد، وتعلمت سر نجاح الشركات متعددة القوميات، وأساليب إخفاء الحقائق بالنسبة لمستحقات الضرائب، ووسائل تهريب الأموال، وتعلمت بالإضافة إلى ذلك عادات اليهود وسلوكياتهم. وتلقيت دروساً مكثفة في اللغة العبرية كما تعلمت تاريخ اليهود في مصروأصول ديانتهم. وعرفت كيف أمايز بين اليهود الإشكانز(*) والسفارد(**) والشازيد(***). وحفظت عن ظهر قلب الشعائر اليهودية وعطلاتهم الدينية حتى أنني كنتأرددها وأنا نائم. وتدربت أيضاً على كيفية البقاء على قيد الحياة معتمداً على الطبيعة في حالة إذا ما اضطرتني الظروف إلى الاختفاء فترة من الزمن. وتدربت بعد هذا على جميع عادات الشرطة السرية للعمل بنجاح متخفياً. وأخيراً تقمصت شخصيتي الجديدة. وأصبحت منذ ذلك التاريخ (جاك بيتون) المولود في 23أغسطس عام1919 في المنصورة، من أبفرنسي وأم إيطالية. وأن أسرتي تعيش الآن في (فرنسا) بعد رحيلها عن مصر، وهي أسرة كانت لها مكانتها وميسورة الحال. وديانتي هي يهودي إشكنازي. وتسلمت وثائق تحمل اسمي الجديد والتواريخ الجديدة.
هكذا ذكر (رفعت) الأمر، في مذكراته الشخصية..
وهكذا انتهى (رفعت الجمَّال) رسمياً، ليولد (جاك بيتون)، الذي انتقل للعيش في (الإسكندرية)، ليقيم في حي يكثر به اليهود، ويحصل على وظيفة محترمة، في إحدى شركات التأمين..
ورويداً رويداً بدأت ثقته في نفسه تزداد، وبدأ يتعايش كفرد من الطائفة اليهودية، التي قدمه إليها زميل الحجز السابق (ليفي سلامة)، والذي قد ضيعه بعض الوقت، عندما تم إلقاء القبض عليه، عند الحدود الليبية..
وفي مذكراته هذه، يكشف لنا (رفعت الجمَّال) جانباً لم يتطرَّق إليه المسلسل التليفزيوني على نحو مباشر أبداً، إذ تباغتنا المفاجأة بأنه قد انضمّ، أثناء وجوده في (الإسكندرية)، الوحدة اليهودية (131)، التي أنشأها الكولونيل اليهودي (إفراهام دار)، لحساب المخابرات الحربية الإسرائيلية (أمان)، والتي شرع بعض أفرادها في القيام بعمليات تخريبية، ضد بعض المنشآت الأمريكية والأجنبية، على نحو يجعلها تبدو كما لو أنها من صنع بعض المنظمات التحتية المصرية، فيما عرف بعدها باسم (فضيحة لافون)، نسبة إلى (إسحق لافون)، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك..
وفي الوحدة (131)، كان (رفعت الجمَّال) زميلاً لعدد من الأسماء، التي أصبحت فيما بعد شديدة الأهمية والخطورة، في عالم المخابرات والجاسوسية، مثل (مارسيل نينو)، التي أقام علاقة معها لبعض الوقت،و(ماكس بينيت)، و(إيلي كوهين)، ذلك الجاسوس الذي كاد يحتلّ منصباً شديد الحساسية والخطورة، بعد هذا بعدة سنوات، في الشقيقة (سوريا)، وغيرهم..
ومذكرات (رفعت)، فيهذا الجزء بالذات، تبدو مدهشة بحق، إذ أنها تخالف كل ما قرأناه أو تابعناه، بشأن عملية (سوزانا)، أو (فضيحة لافون)؛ إذ أنها توحي بأن كل شيء كان تحت سيطرة جهاز مكافحة الجاسوسية منذ البداية، وأن (حسن حسني)، ومن بعده (علي غالي)، الذي تولَّى أمر (رفعت)، في مرحلة تالية، كانا يتابعان نشاط الوحدة (131) طوال الوقت، وأن معلومات (رفعت)، التي كان ينتزعها، من قلب الوحدة، كانت سبباً أساسياً في إحباط العملية كلها، وإلقاء القبض على كل المشتركين فيها.
الجزء الرابع
على الرغم من التعارض الواضح، في مذكراته، مع مانشر عن تفاصيل سقوط
جواسيس فضيحة (لافون)، فأنا -شخصياً- أكثر ميلاً لتصديق قصة (رفعت)، بل
وأعتقد أن الهدف من نشر الأمر، على نحو مختلف، كان حمايته بالدرجة الأولى
بعدما انتقل عمله من الشرطة والبوليس السياسي إلى عالم الجاسوسية، وتطوَّر
الهدف من وجوده، في مرحلة تالية من العملية..
ولقد تم إلقاء القبض على (رفعت) و(إيلي كوهين)، كأفراد في الوحدة
(131)، ثم أطلق سراحهما فيما بعد، لعدم وجود ما يدينهما، فاختفى بعدها (إيلي)،
في حين بقي (رفعت)، ليواصل الحياة لبعض الوقت، باسم (جاك بيتون)، الذي لم
يتطرَّق إليه الشك حتماً، بدليل أن الإسرائيليين قد اتهموا عضواً آخر، من الوحدة (131)
بكشف أسرارها، وهو (بول فرانك)، الذي حوكم بالفصل، فور عودته إلى (إسرائيل)
وصدر ضده الحكم بالسجن لاثني عشر عاماً..
وحتى ذلك الحين، وكما يقول (رفعت) في مذكراته، كانت مهمته تقتصر على
التجسُّس على مجتمع اليهود في (الإسكندرية)، ولكن عقب نجاح عملية الوحدة (131)
تم استدعاؤه إلى (القاهرة)، ليلتقي بضابط حالته الجديد (علي غالي)، الذي واجهه
لأوَّل مرة بأنه قد نجح تماماً في مهمته، وأن الخطة ستتطوَّر، لتتم الاستفادة به أكثر
خارج الحدود، خاصة وأن سمعته، كفرد سابق في الوحدة (131)، ستخدع
الوكالات اليهودية، وستدفعها للتعامل معه كبطل..
وهنا أيضاً، أعتقد أنه من الأروع أن نقرأ تفاصيل تلك اللحظات الحاسمة من مذكرات (رفعت)
مباشرة، عندما يقول:
مرة أخرى وجدت نفسي أقف عند نقطة تحول خطيرة في حياتي. لم أكن أتصور
أنني ما أزال مديناً لهم، ولكن الأمر كان شديد الحساسية عندما يتعلق بجهاز المخابرات.
فمن ناحية روعتني فكرة الذهاب إلى قلب عرين الأسد. فليس ثمة مكان للاختباء
في (إسرائيل)، وإذا قبض عليَّ هناك فسوف يسدل الستار عليَّ نهائياً.
والمعروف أن (إسرائيل) لا تضيع وقتاً مع العملاء الأجانب. يستجوبونهم ثم يقتلونهم.
ولست مشوقاً إلى ذلك. ولكني كنت أصبحت راسخ القدمين في الدور الذي تقمصته
كما لو كنت أمثل دوراً في السينما، وكنت قد أحببت قيامي بدور (جاك بيتون).
أحببت اللعبة، والفارق الوحيد هذه المرة هو أن المسرح الذي سأؤدي عليه دوري
هو العالم باتساعه، وموضوع الرواية هو الجاسوسية الدولية. وقلت في نفسي أي
عرض مسرحي مذهل هذا؟... لقد اعتدت دائماً وبصورة ما أن أكون مغامراً مقامراً
وأحببت مذاق المخاطرة. وتدبرت أمري في إطار هذه الأفكار، وتبين لي أن لا خيار أمامي.
سوف أؤدي أفضل أدوار حياتي لأواجه خيارين في نهاية المطاف: إما أن يقبض
عليَّ وأستجوب وأشنق، أو أن أنجح في أداء الدور وأستحق عليه جائزة أوسكار.
وكنت مقتنعاً أيضاً بأني أعمل الصواب من أجل مصر وشعبها.
قلت لغالي:
- إذا كنت تعتقد أنني قادر على أداء المهمة فإني لها.
ثم كان السؤال الثاني:
- كيف نبدأ من هنا؟
- سوف يجري تدريبك على العمل على الساحة الدولية. كل ما تتعلمه
يجب أن يسري في دمك. هذا هو سر اللعبة. أنت مخرج عرضك المسرحي
وإما أن تنجح فيه بصورة كاملة، أو تواجه الهلاك.
تصافحنا علامة الموافقة وبدأت جولة تدريب مكثف. ودرست تاريخ اليهود الأوروبيين
والصهيونية وموجات الهجرة إلى فلسطين. تعلمت كل شيء عن الأحزاب السياسية
في (إسرائيل) والنقابات و(الهستدروت) أو اتحاد العمال، والاقتصاد والجغرافيا
والطوبوغرافيا وتركيب (إسرائيل). وأصبحت خبيراً بأبرز شخصيات (إسرائيل)
في السياسة والجيش والاقتصاد عن طريق دراسة أفلام نشرات الأخبار الأسبوعية.
وأعقب هذا تدريب على القتال في حالات الاشتباك المتلاحم والكر والفر
والتصوير بآلات تصوير دقيقة جداً، وتحميض الأفلام وحل شفرات رسائل أجهزة
الاستخبارات والكتابة بالحبر السري، ودراسة سريعة عن تشغيل الراديو، وفروع
وأنماط أجهزة المخابرات والرتب والشارات العسكرية. وكذلك الأسلحة الصغيرة
وصناعة القنابل والقنابل الموقوتة. وانصب اهتمام كبير على تعلم الديانة الموسوية
واللغة العبرية. واعتدت أن أستمع كل يوم ولمدة ساعات إلى راديو إسرائيل.
بل وعمدت إلى تعميق لهجتي المصرية في نطق العبرية لأنني في نهاية الأمر مولود في مصر.
بعد التدريب تحددت لي مهنة. تقرر أن أكون وكيل مكتب سفريات حيث إن هذا
سيسمح لي بالدخول إلى (إسرائيل) والخروج منها بسهولة، وتقرر أن أؤدي اللعبة
لأطول مدة ممكنة. لم يكن ثمة حد زمني، وكان لي الخيار بأن أترك الأمر كله
إذا سارت الأمور في طريق خطر. وسوف نرى إلى أين تمضي بنا الأمور. وقيل لي
إنني أستطيع بعد ذلك العودة إلى (مصر) وأستعيد شخصيتي الحقيقية.
وتسلمت مبلغ 3000 دولار أمريكي لأبدأ عملي وحياتي في (إسرائيل).
وفي يونيو1956 استقللت سفينة متجهة إلى (نابولي) قاصداً في الأصل أرض الميعاد.
ودعت (مصر) دون أن أدري ما سوف يأتي به المستقبل.
واعتباراً من هذه المرحلة، تنقلنا مذكرات (رفعت الجمًّال)، التي تركها لزوجته بعد وفاته
إلى تلك المرحلة الجديدة تماماً من حياته، والتي سافر خلالها إلى (نابولي)،
حيث التقطته الوكالة اليهودية هناك، وبذلت جهدها لإقناعه بالسفر إلى (إسرائيل)،
(أرض الميعاد)، كما كانت تقول دعاياتهم بمنتهى الإلحاح أيامها..
وفي هذا الجزء بالذات، وربما دون أن يدري (رفعت) نفسه، تتبدّى عبقرية العملية كلها،
إذ لم يبد هو أية لهفة، على السفر إلى (إسرائيل)، إلا أنه لم يمانع بشدة في الوقت نفسه،
وإنما جعلهم يعتقدون أنهم قد نجحوا في إقناعه، وتركهم يدفعونه إلى ظهر سفينة،
حملته إلى (إسرائيل)، التي استقبله فيها رجل مخابرات يُدعى (سام شواب)، واستجوبه
بعض الوقت، ثم منحه تأشيرة إقامة، وجواز سفر إسرائيلي فيما بعد، مما يؤكِّد
أن عملية المخابرات المصرية قد نجحت بالفعل.. وبمنتهى القوة..
الجزء الخامس
ويتحدَّث (رفعت الجمَّال)، في تلك المرحلة من مذكراته، عن إنشائه لمكتب سفريات
(سي تورز)، في 2 شارع (برينر) في (تل أبيب)، وصداقته مع (موشي دايان)،
ومحاولات (سام شوب)، التقرُّب إليه، ودفعه الفاتنة (راكيل إبشتين) في طريقه،
ومحاولاته هو لاكتساب ثقة (دايان) و(شوب)، و(عزرا وايزمان)، ثم ينتقل بنا فجأة
إلى حدث شديد الأهمية والخطورة..
فمع اقترابه من مواقع الأحداث، علم (رفعت) بأمر العدوان الثلاثي قبل وقوعه،
وعرف الكثير من تفاصيله، وسافر إلى (روما) و(ميلانو) بالفعل، بعد ترتيبات دقيقة؛
ليلتقي برئيسه، ويخبره بكل ما لديه..
ولكن أحداً لم يصدّق، أو يقتنع بأهمية وخطورة تلك المعلومات، التي أتى بها
(رفعت)، من قلب (إسرائيل)...
ووقع العدوان الثلاثي..
وحدث ما حدث..
وتساءل (رفعت): لماذا لم يصدق أحدهم تحذيره!…
ولكنه لم يحصل على الجواب أبداً..
وفي عام 1957م، فوجئ (رفعت) بزيارة من (إيلي كوهين)، زميله السابق، في
الوحدة (131)، الذي سعى إليه، واستعاد صداقته معه، قبل أن يبدأ مهمته، التي
سافر من أجلها إلى (أمريكا الجنوبية)، للاندماج بمجتمع المهاجرين السوريين،
تمهيداً لزرعه في (سوريا) فيما بعد، والتي ساهم (رفعت) نفسه في كشف أمرها،
عندما أبلغ المخابرات المصرية، أن صورة (كامل أمين ثابت)، التي نشرتها الصحف،
المصرية والسورية، إنما هي لزميله السابق، الإسرائيلي (إيلي حوفي كوهين)..
وفي مذكراته يمضي (رفعت) في سرد حياته في (تل أبيب)، ويروي قصة اختيار
مكتبه السياحي لإقامة الجسر الجوي؛ لنقل يهود (بيروت) إلى (إسرائيل)، مما يؤكِّد
ثقة السلطات الإسرائيلية البالغة فيه، ويمرّ خلال هذا برواية رحلته السرية إلى (مصر)،
في صيف 1958م، وبقصة الرحلة، التي أهداها إلى (إيلي كوهين) وزوجته، بمناسبة
زفافهما، ثم يتوقَّف بعض الوقت؛ ليروي صداقاته وعلاقاته الوثيقة، بقادة (إسرائيل)
في ذلك الوقت، ليقول في هذه الفقرة: (كثفت اتصالاتي بكل من (ديان)، و(وايزمان)،
و(شواب)، ونظراً لصلة (ديان) الوثيقة بـ(بن جوريون)، فقد استطعت أن أكسب ثقة
(بن جوريون) أيضاً، وأصبحت عضواً في مجموعة الشباب المحيطين به، إذ كان يحب
أن يحيط به الشباب ويستمع لآرائهم وأفكارهم. أما (جولدا مائير) فكانت تتميَّز بأنها
امرأة عطوف، وأبدت وداً شديداً نحوي، وكثيراً ما تساءلت بيني وبين نفسي ماذا
عساهم أن يقولوا عني لو اكتشفوا حقيقتي وعرفوا أني استخدمتهم)...
والواضح أيضاً، في هذه المرحلة من المذكرات، أن الفترة من 1959م، وحتى 1963م،
لم تحمل متغيرات قوية، تستحق الإشارة إليها، إذ قفز (رفعت) بالأحداث دفعة واحدة،
ليروي كيف أبلغ (مصر) باعتزام (إسرائيل) إجراء تجارب نووية، واختبار بعض الأسلحة
التكنولوجية الحديثة، أثناء لقائه برئيسه (علي غالي) في (ميلانو)، قبل أن يطرح أوَّل
مطلب له، منذ فترة طويلة..
أوّل وأخطر مطلب..
على الإطلاق.
طوال فترة عمله، في قلب إسرائيل، لحساب المخابرات المصرية، لم يتقدّم (رفعت الجمّال)
بمطلب واحد للمسؤولين..
حتى كان مطلبه هذا..
أن يعود إلى (مصر)، ويدفن إلى الأبد شخصية (جاك بيتون)..
حدث هذا في يونيو1963م، قبل لقائه الأوَّل بزوجته فيما بعد (فلتراود)، أي أن رغبته
هذه كانت تعكس حالة الإجهاد التي وصل إليها، ورغبته الحقيقية في استعادة
(رفعت الجمَّال)، بهويته، وجنسيته..
وديانته أيضاً..
ولكن العودة لم تكن بالبساطة التي توقَّعها (رفعت)؛ إذ لم يكن من السهل بالتأكيد،
أن يختفي (جاك بيتون) هكذا فجأة، من قلب (إسرائيل)، ليظهر (رفعت الجمَّال) مرة
أخرى في (القاهرة)؛ فهذا كفيل بكشف كل ما فعله طوال حياته..
ليس هذا فحسب، ولكن ستكشف -أيضا- شبكات التجسُّس التي تركها خلفه أيضاً..
وفي عالم المخابرات تعتبر هذه كارثة.. وبكل المقاييس..
كان عليه –إذن- أن يحتفظ بشخصية (جاك بيتون) لبعض الوقت، وإن كان باستطاعته
أن يغادر (إسرائيل)، ويرحل إلى بلد ثالث، بحجة العمل أو الارتباط، حتى يفقد
(الموساد) اهتمامه به، بعد فترة من الوقت، مما يسمح له بالعودة إلى (مصر)..
وعند هذا الحد، تمتزج، على نحو ما، مذكرات (جاك بيتون) بمذكرات زوجته (فلتراود)،
فيروي هو نفس ما روته هي من قبل، حول لقائهما، في أكتوبر 1963م، ووقوع كل
منهما في حب الآخر، وزواجهما.
ولكن هناك فقرة مهمة جداً، في المذكرات التي تركها (رفعت) لزوجته بعد وفاته،
تستحق حتماً أن نتوقَّف عندها، وأن ننقلها هنا نصاً؛ لأنها تؤكِّد نجاحه البالغ:
(وعدنا إلى إسرائيل في أوائل يناير1964م، قدمتك إلى "جولدا مائير"، وأحبتك كثيراً،
ثم اصطحبتك في زيارة إلى "بن جوريون"، في الكيبوتز الخاص به. رافقنا "ديان"
في هذه الزيارة، وبعد أن استقبلك "بن جوريون" العجوز مرحباً، طلبت منك التجول
في الكيبوتز إلى أن نفرغ من حديثنا أنا و"بن جوريون" و"ديان". لم يتناول نقاشنا
شيئاً له أهمية كبيرة، ولكن كان لابد وأن أكون متابعاً لمسرح الأحداث)..
إلى هذا الحد إذن كان (رفعت الجمّال) متوغّلاً، في قلب عالم الكبار
في (إسرائيل)!!! أي نجاح يمكن أن يفوق هذا!!
والنقطة المهمة جداً، التي ينبغي التوقف عندها، في هذه المذكرات أيضاً، هي
إصرار (رفعت) الشديد، على ألا يولد ابنه في (إسرائيل)، وعلى أن تسافر زوجته
لتنجبه في (ألمانيا)، حتى لا يحمل إلى الأبد الجنسية الإسرائيلية..
ورويداً رويداً، راح (رفعت) يتحلَّل من أعماله والتزاماته في (إسرائيل)، ويقوي روابطه
وأعماله في (ألمانيا)، وبدأ في دراسة كل ما يتعلَّق بالنفط، الذي قرَّر أن يجعل من
تجارته مصدر رزقه الأساسي، خاصة وأنه قد تقدَّم بطلب للحصول على الجنسية الألمانية،
التي ستتيح له السفر بيسر أكثر، ودون تعقيدات أمنية عديدة، إلى (مصر)، في أي
وقت يشاء، كرجل أعمال ألماني، وتاجر نفط عالمي..
وفي فقرة مؤسفة، يؤكِّد (رفعت) أنه، باتصالاته التي لم تكن قد انقطعت بعد،
بالمسؤولين الإسرائيليين، أمكنه معرفة أن (إسرائيل) تستعد للهجوم على (مصر)،
في يونيو1967م، وأنه أبلغ المسؤولين في (مصر) بهذا، إلا أن أحداً لم يأخذ
معلوماته مأخذ الجد، نظراً لوجود معلومات أخرى،
تشير إلى أن الضربة ستنصب على (سوريا) وحدها!!..
ووقعت نكسة1967.. وانهزمنا هزيمة منكرة.. وعلى الرغم من حالة الإحباط وخيبة الأمل، التي أصابته بسبب هذا، واصل (رفعت) ارتباطه بالمخابرات المصرية، وظلّ يرسل إليها كل ما يقع تحت يديه من معلومات،من خلال صداقته مع رجل المخابرات الإسرائيلي (سام شواب)، حتى توافرت لديه
فجأة بعض المعلومات بالغة الخطورة، (لم يفصح عنها أيضاً في مذكراته)، والتي
أرسلها فوراً إلى (مصر)، وصدقها المصريون، وكان لها تأثير واضح، في حرب 1973م..
وبعد الحرب والانتصار، عاد (رفعت) يطلب العودة إلى (مصر)، ولكن المخابرات
المصرية أخبرته أنه لا يستطيع العودة مع أسرته، إذ يستحيل أن تتم حماية الأسرة
كلها طوال الوقت، من أية محاولات انتقامية إسرائيلية، إذا ما انكشف أمره..
كان على الطير أن يواصل التحليق إذن، بعيداً عن وطنه، وأن يحمل حتى آخر
العمر جنسية (جاك بيتون)، اليهودي الإسرائيلي السابق، ورجل الأعمال الألماني
المحترم، الذي نجح في إقامة مشروع نفطي كبير في (مصر)، ظلّ يزهو به، حتى
آخر لحظة في حياته، ويروي في مذكراته كيف حصل على امتياز التنقيب عن البترول
المصري، في عام 1977م، ليعود أخيراً إلى (مصر)، التي عشق ترابها،
وفعل من أجلها كل ما فعله.. وفي نهاية مذكراته، يتحدَّث (رفعت الجمَّال) عن إصابته بمرض خبيث،
وتلقيه العلاج الكيمائي، في أكتوبر1981م، وتفاقم حالته، ثم يبدي ارتياحه،
لأن العمر قد أمهله، حتى أكمل مذكراته، وأن زوجته وابنه (دانيال)،
وابنته بالتبني (أندريا) سيعرفون يوماً ما حقيقته، وهويته، وطبيعة الدور
البطولي الذي عاش فيه عمره كله، من أجل وطنه..
من أجل (مصر)..وهنا ينتهي الجزء الثاني من الكتاب، ليبدأ الجزء الثالث، وهو الأقل أهمية،
بالنسبة للقارئ، نظراً لأنه يحوي تطورات حياة (فلتراود)، بعد رحيل (رفعت)،
ومحاولاتها السيطرة على الأمور، ومعرفتها بأمر زوجها، على لسان ابن شقيقه
(محمد سامي الجمَّال)، في نفس يوم الوفاة، وكيف أنها لم تصدّق ماسمعته،
وأنكرته، واستنكرته..
ثم تتحدّث عن المفاجأة التي تلقَّتها، مع قراءتها لمذكراته، بعد ثلاث سنوات
من وفاته، وتأكُّدها مما أخبرها به (محمد الجمَّال) قديماً..
ويالها من مفاجأة!!
ثم تروي (فلتراود) قصة لقائها بالفنان (إيهاب نافع)، وارتباطها به، والدور الذي
قام به، لإجراء الاتصال بينها وبين المخابرات المصرية؛ للتيقن من حقيقة ما جاء
في مذكرات زوجها الراحل، ثم زواجها من (إيهاب نافع) فيما بعد..
والأحداث الأخيرة تختلف إلى حد ما، عما قدَّمه المسلسل التليفزيوني، وتبدو طويلة
ومضجرة، وخاصة بعد خروجك من مذكرات (رفعت الجمَّال) نفسه، ولكن اختلافها لن
يصنع فارقاً كبيراً، بالنسبة للقارئ أو المتابع؛ إذ أن كل ما يعنينا
من الأمر هو أن الاتصال قد تم..
وأن العالم كله يعرف الآن أن المخابرات المصرية قد نجحت، في صفع الإسرائيليين،
طوال ثمانية عشر عاماً كاملة، وزرع جاسوس مصري في قلب قياداتهم..
وقلب مجتمعهم..
بل وقلب كيانهم الأساسي كله..
وأنها كانت واحدة من أروع وأكمل العمليات، التي تم نشر (بعض) تفاصيلها،
في تاريخ المخابرات كله..
عملية، برع وتألّق خلالها جاسوس يعد الأشهر في عالمه، حتى لحظة كتابة هذه السطور..
بل أشهر الجواسيس..على الإطلاق.
القادمون من المريخ :: المهم :: منوعات :: مجتمع :: قصص جاسوسية وتجسس :: عملاء زرعتهم المخابرات العربية في اسرائيل
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 5 نوفمبر - 22:34 من طرف فايز سليمان
» هذا البيان لاثبات من يقوم بقصف اليرموك
الإثنين 5 نوفمبر - 22:32 من طرف فايز سليمان
» رفضًا لتصريحات محمود عبّاس
الأحد 4 نوفمبر - 12:13 من طرف سالي
» من قام بحادث رفح
الجمعة 2 نوفمبر - 0:06 من طرف فايز سليمان
» الجزء الثاني
الخميس 1 نوفمبر - 15:50 من طرف فايز سليمان
» هل تتذكرون
الخميس 1 نوفمبر - 15:36 من طرف فايز سليمان
» الفرقان الحق ( بدلاً عن القرأن )
الخميس 1 نوفمبر - 15:34 من طرف فايز سليمان
» خواني واخواتي
الخميس 1 نوفمبر - 15:31 من طرف فايز سليمان
» نقلا عن الأسبوع المصرية
الخميس 1 نوفمبر - 15:29 من طرف فايز سليمان